قصة إنسانية تُشبه البحر… هادئة في ظاهرها، لكنها تخفي في الأعماق وجعًا لا يُحتمل.
كانت رُبى تجلس على صخرةٍ صغيرة على شاطئ مدينتها الساحلية،
تنظر إلى الأفق البعيد حيث يذوب البحر في زرقة السماء،
وتتنفّس ببطء، كأنها تحاول أن تُقنع قلبها أن الحياة ما زالت تمضي.
مرت خمس سنوات على رحيل زوجها سليم في حادث غرقٍ غامض.
لم يُعثر على جثته، فقط قاربه المهشّم الذي لفظه البحر بعد يومين.
ومنذ ذلك اليوم
وكل موجةٍ فيه تهمس: “لم يعد بعد.”
كانت رُبى تربي ابنهما آدم وحدها — فتى في السادسة عشرة،
يحمل ملامح أبيه وصمته أيضًا،
ويكره البحر كأنه سبب كلّ يتيم في هذا العالم.
الرسالة الأولى
في إحدى الليالي، أثناء عاصفةٍ هوجاء،
سمع آدم صوت ارتطامٍ قويّ قرب الشاطئ، فخرج مذعورًا.
رأى قاربا صغيرًا يطفو مهشّمًا، تمامًا كما حدث قبل خمس سنوات.
وبين الحطام، وجد زجاجة مغلقة فيها ورقة مبلّلة:
“إلى من ينتظر… أنا لم أمت، البحر سرقني منكم.”
ارتجف آدم، ركض إلى أمه يحمل الرسالة،
لكنها حين قرأتها تجمّدت، ثم قالت بوجهٍ شاحب:
“هذه خط يده.”
سرّ سليم
بدأت الأخبار تنتشر في البلدة:
“سليم حيّ!”
لكن رُبى لم تعد تصدّق بسهولة.
ذهبت إلى الميناء القديم لتبحث عن أي دليل.
هناك قابلت رجلًا عجوزًا كان يعمل مع سليم قديمًا،
قال لها بصوتٍ متهدّج:
“زوجك لم يغرق يا ابنتي… لقد هرب.”
تجمّدت الكلمات في حلقها.
هرب؟ من ماذا؟ منها؟ من ابنه؟
قال الرجل:
“كان مدينًا لتجّار البحر الكبار، بعد أن خسر شحنة ضخمة…
اختار أن يختفي بدل أن يجرّكم معه.”
العودة
بعد شهرٍ من تلك الليلة، بينما كانت رُبى تُغلق باب البيت عند الغروب،
سمعت صوتًا تعرفه رغم مرور الزمن.
“رُبى…”
استدارت.
كان سليم واقفًا، نحيلًا، غارقًا في ملامح الغياب.
لم تصرخ. لم تبكِ. فقط نظرت إليه بصمتٍ ثقيل.
قال:
“عدتُ لأصلح ما أفسدته.”
لكن آدم الذي خرج من الغرفة،
وقف أمامه وقال ببرودٍ مؤلم:
“تأخّرت… البحر أخذ مكانك منذ زمن.”
العاصفة الأخيرة
مرت أسابيع من الصمت بينهما.
رُبى كانت ممزقة بين حبٍّ قديمٍ ووجعٍ لا يشفى،
وسليم كان يحاول أن يعيد بناء شيء تهدّم بالكامل.
وفي مساءٍ ماطر، خرج آدم إلى البحر غاضبًا بعد شجارٍ مع أبيه.
ركضت رُبى خلفه، لكن الموج كان أسبق.
اختفى في العتمة.
سليم قفز خلفه دون تفكير.
ظلّت رُبى على الشاطئ تصرخ باسميهما،
حتى أشرقت الشمس ولم يعد أيٌّ منهما.
حين يفيض البحر
بعد يومين، لفظ البحر جسدًا واحدًا فقط — جسد آدم.
أما سليم، فلم يظهر أبدًا.
جلست رُبى على الشاطئ نفسه، تحمل القلادة التي وجدتها في عنق ابنها،
وفي داخلها ورقة صغيرة مبللة:
“أمي، إن عاد أبي… سامحيه.
البحر لا يسرق أحدًا، فقط يعيد من غرق في نفسه.”
💔 النهاية
مرت سنوات، والناس نسيت القصة.
لكنهم يقولون إن رُبى ما زالت تأتي كل مساء إلى الشاطئ،
تجلس على نفس الصخرة، وتُحدّث البحر كأنه يسمعها.
وفي إحدى الليالي الهادئة، شوهد معطفها فقط على الرمال…
تحت الصخرة التي كانت تجلس عليها.
ومنذ تلك الليلة، زاد المدّ في البحر،
وقال أهل البلدة إن البحر قد “فاض أخيرًا” —
كأنّه بكى لأجلهم جميعًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق