يا أبا فلان، أحضر لنا فطورا معك.
فمررت بأقرب محلّ لبيع الفول، فلمّا وصلت فوجئت بزحام في المكان، و طابور طويل، لكنّه كان يتحرّك بسرعة.
بينما أنتظر دوري لآخذ طلبي من العامل و أتصفٌح الهاتف، دخل شاب بنغالي، في بداية العشرينات من عمره على الأغلب، اتّجه مباشرة إلى العامل وأنا مستغرب لماذا لا يأخذ دوره مثلنا.
بعد قليل ارتفع صوت العامل وهو يقول:
لا أقدر، لا أقدر، غير ممكن.
عندها تكلّمت وقلت:
ألا تفهم، حمار أنت؟، ارجع، ارجع إلى الخلف.
كان ينظر إليّ وأعتقد أنّه لم يفهم كلامي. رفعت صوتي وقلت:
يالله ارجع إلى الخلف، وأشرت له بيدي إلى الوراء، والبنغالي ينظر إليّ و هو صامت، ثمّ انصرف.
وصل دوري، وتحدّثت مع العامل:
يا أخي فعلًا لا يستحي، يرى الناس تقف مصطفّة تنتظر و يريد أن يتجاوزهم.
قال النادل: لا، أنت فهمت الموضوع خطأ.
قلت: كيف؟
قال: هو جاء يسألني، يقول ممكن آخذ فول بريال؟ قلت لا، غير ممكن، أقل تسعيرة بثلاثة ريال، و طلب أن يعطي ثلاثة ريال لأجل ثلاثةأيام، و يأخذ كل يوم بريال، لأنّ نقوده قليلة، قلت: لا، غير ممكن، وبعدها أنت تكلمت و غادر هو.
التفت بعدها بسرعة أبحث عن البنغالي وأنا أردّد:
لا حول ولا قوّة إلا باللّه، وأسأل عنه كلّ من بالشارع، كلهم لا يعرفونه.
ضاق صدري، إنّه لا يملك قيمة الفطور، و أنا نهرته وزجرته وسط الحضور ولم يرد عليّ بكلمة، فقط سكت وانصرف.
ذهبت إلى المكتب وأفطرنا، واللّه الذي لا إله إلّا هو، مع كلّ لقمة كنت أراه أمامي، و تصيبني غصّة، ثم قمت.
عدت مرّة أخرى إلى المحلّ أبحث عنه، و أخبروني أنّه لم يرجع إلى هناك.
وبعد بحث مكثّف لعشرة أيام متواصلة أخبرني أحدهم أنّ اسم ذاك البنغالي موسى، و أنّه يعمل في صيانة الحديقة بالقرب من الجامع.
انتظرته ذاك اليوم مبكرا هناك، كانت الساعة السابعة صباحا، رأيت سيارة توقفت في المكان و نزل منها أربعة عمال و موسى معهم، ركضت إليه وناديته، والتفت إلي مستغربا، سلّمت عليه وقلت له : أين أنت يا موسى؟، أنا أبحث عنك منذ عشرة أيام.
نظر إلي وهو مندهش، كأنّه لم يعرفني، فأخبرته أنّي ذاك الرجل الذي افتعل معه مشكلة في محلّ الفول قبل فترة، ابتسم و طبطب على كتفي.
أعطيته خمسين ريالا و قلت:خذ هذه يا موسى، لكن لا تغضب منّي.
حاول أن يعيدها في استحياء، رفضت، و أخذته معي إلى المحلّ، و طلبت من العامل هناك أن يكون فطوره كلّ يوم على حسابي.
فرح موسى جدّا وشكرني، وأحسست أنّي أعدت له اعتباره وكرامته.
بعد شهر تقريبا ، مررت إلى هناك لأدفع، فطلب العامل أن أترك الحساب عليهم، لكنّي رفضت، فأخبرني أنّ حسابه خمسة عشر ريالا، و أنّه طلب الفطور ثلاث مرّات فقط ثم اختفى.
استغربت، وانتظرت موعد حضور العمّال رفاقه إلى الحديقة، و جاءوا جميعا عدا موسى، سألتهم عنه، فقال أحدهم: أصيب موسى قبل أسبوع في حادث مرور، و مات رحمه اللّه بعد أن مكث في المستشفى أربعة أيّام فقط، نزل عليّ الخبر كالصاعقة.
علمت من أحد أبناء بلده أنّ والد موسى توفي و هو في الثانية عشر من عمره، و توفيت والدته و هو في السادسة عشر، وتركوا له ثلاث إخوة مع عمّتهم، كان يعمل منذ ثمانية عشر شهرا و يحوّل لهم كلّ راتبه، و في المساء يعمل عملا إضافيا، يغسل السيارات، ينظّف البيوت...، ليجمع مبلغا يكفيه لأكله هو و شربه.
استحقرت نفسي يومها، و أدركت أنّه إنّما كان يستعطف النادل ليفطر بريال ليوفّر لإخوانه وعمّته.
جمعت بعدها مبلغا و أوصلناه لعائلته، لعلّي أكفّر عن خطئي في حقّ أخي موسى.
نحن الآن في شهر رمضان، في كل سجدة أرى صورة موسى أمامي، واللّه لقد ندمت أشدّ النّدم لأنّي صرخت في وجهه، ولم يردّ عليّ احترامًا لي أو خوفًا منّي، وعاهدت نفسي أن أمسك نفسي ولساني عن الناس، ولا أجرح و لا أحتقر أحدا.
رحمك اللّه يا موسى.
للحصول على مرجع يضم أسئلة جميع اختبارات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية (SCFHS)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق